بسري… السّد المعلّق
إن المياه هي مورد حيوي للبنان سطحيّة كانت أو جوفيّة ويجب تخطيط استعمالها وادارتها. إذ أنّ كل ادارة متخصصة لأي قطاع من قطاعات المياه يجب ان تكون فعاّلة ومرنة، وتُراعي الجهة القانونية والإدارية بحيث تكون ملائمة جميع قطاعات المياه.
إن المناخ اللبناني هو مناخ متوسطي يتميز بغزارة المتساقطات في فصل الشتاء وبفترة جفاف في الأشهر المتبقية من السنة. وتتراوح نسبة المتساقطات بين 600 ملم الى 900 ملم على السواحل و1400 ملم في المرتفعات، وتهبط إلى 400 ملم شرقي البلاد. وتساهم على المنسوب 2000م وما فوق، في المحافظة على استمرارية تدفّق الينابيع خلال فترة
الجفاف. بيد انها بدأت تشهد تغيرًا مع تدني نسبة المتساقطات مع تراجع فترة الشتاء نظراً الى عامل الإحتباس الحراري الذي يشهده منذ فترة حوض البحر المتوسط .
لقد أصبحت مؤخراً مسألة المياه في لبنان ذات أهمية كبرى نظراً الى محدودية لبنان من هذا المورد، لقد أصبحت قلة المياه وهدرها في البحر المتوسط أحد العناصر الأساسية التي تسهم في تدهور الثروة المائية. ويمكن تلخيص إجمالي المياه المتجددة داخل الأراضي اللبنانية بحوالي 7.2 مليار متر مكعب سنوياً.
لذلك فإن عدد سكان لبنان حالياً يقدر بحوالي الستة ملايين نسمة (بين لبنانين وعرب مقيمين)، مع نسبة النمو السكاني السنوي التي تقدر بحوالي 7.2 %، فيما يقدر مجموع كمية الطلب على مياه الشرب والصناعة وفق المعايير المعتمدة من قبل وزارة الطاقة والمياه وتقارير البنك الدولي بـ 300 ليتر نسمة/ يوم. أما بالنسبة إلى الطلب على مياه الري
فإن المساحة المروية العام 2008 هي 100.000 هكتار بحسب إحصاءات منظمة FAO، ووزارة الزراعة، بالإضافة إلى أن المساحة المتوقع ريّها حتى العام 2050 هي 280000 هكتار.
إن وزارة الطاقة والمياه قد حددت الحاجة إلى مياه الري بما فيه الهدر في شبكات الجر والتوزيع كالآتي:
10000 متر مكعب للهكتار في السنة للعام 2000
8000 متر مكعب للهكتار في السنة للعام 2015.
6000 متر مكعب للهكتار في السنة للعام 2010.
واستنادًا لهذه المعطيات، عمدت إلى احتساب الميزان المائي في لبنان وادارة الطلب لسنة 2005 و2030 لمجمل القطاعات كالآتي:
العام 2005: ري: 900 مليون متر مكعب/ صناعة : 150 مليون متر مكعب/ شفة: 501 مليون متر مكعب، المجموع 3.068 مليار متر مكعب/سنة.
العام 2030: ري: 1800 مليون متر مكعب/ صناعة: 293 مليون متر مكعب/ شفّة: 975 مليار متر مكعب بالسنة.
على الرغم من تعّدد مصادر المياه في لبنان، فإن الواقع العلمي يظهر وجود عجز بالميزان المائي مرده إلى هدر حوالي 2.1 مليار متر مكعب/سنة في البحر بالإضافة إلى أزمة متعددة الجوانب، حيث يغلب الشح والتقنين طوال السنة، ما أدى إلى ازدياد الحاجات المائية (خاصة مياه الشرب والإستعمال المنزلي والري نتيجة التطور والتقاليد الإجتماعية).
بالنظر الى العجز الكبير الذي يشهده لبنان حالياً والأرقام والوقائع المبنية للعجز المستقبلي العام 2030، والذي قدر بـ 1660مليون متر مكعب، كان لا بد من التفكير الجدي بوسائل مجدية وعملية لتأمين موارد مائية إضافية من خلال بناء السدود والبحيرات الجبلية وبتغذية المياه الجوفية بالاضافة إلى إعتماد التقنيات الحديثة. وكانت المبررات الإنمائية لإنشاء السدود والبحيرات هي:
– تخزين الكميات الممكنة من مياه الأمطار السطحية في فصل الغزارة وتقدر بحوالي مليار متر مكعب.
– زيادة نسبة تغذية الطبقات الجوفية من مياه الأمطار والمتساقطات.
– ترشيد استخدام مصادر المياه والتخفيف من كلفة الطاقة المستعملة في الضخ.
– اعتماد تقنية الري الحديث مثل التنقيط أو الرش بغية ضبط الهدر.
– إعادة استعمال المياه المبتذلة بعد تكريرها (تكرير كيميائي) لأغراض الري.
– استعمال المياه بالتقنيات غير التقليدية في بعض المناطق اللبنانية، وذلك بتخزين الثلوج في المناطق الجبلية ودرس امكانية تحلية مياه البحر واستعمال الينابيع العذبة.
ومن هذه السدود التي أقامتها الدولة اللبنانية للتحكم بجريان المياه وتوليد الطاقة الكهربائية:
سد القرعون على نهر الليطاني وهو من أضخم السدود اللبنانية، وتبلغ كمية تخزين المياه 220 مليون متر مكعب.
سد بسري على نهر الأولي، الذي هو تحت التنفيذ، سيجمع الى ما يصل إلى 128 مليون متر مكعب وسيستعمل لمّد مدينة بيروت وضواحيها بالمياه.
ويندرج مشروع سد بسري ضمن منظومة تزويد بيروت وجبل لبنان بالمياه التي تشمل مشروعين: الأول هو سد بسري، والثاني هو جر مياه نهر الأولي. ولكل هذين المشروعين عقد منفصل للتنفيذ مع متعهد مختلف. اما في ما يتعلق بمشروع سد بسري، فالمتعهد هو تحالف شركتي Nurol و Ozaltin التركيتين، وعقدهما ساري المفعول إذ ان الشركتين تقدمتا أصولاً الى المناقصة بمستندات تبين أن لديهما ملاءمة عالية وكافية لتنفيذ المشروع تفوق ما هو مطلوب.
ولكن الأضرار والمخاطر لتنفيذ مشروع بسري تفوق الكلفة المالية الباهظة لإقامة السد اذ في حال تنفيذه حسب آراء العديد من الخبراء والمهندسين والمتخصصينسيتم تدمير 6 مليون متر مربع من المناطق الزراعية، كما سيتم تهديد وتفكيك 50
موقع تاريخي. أضف إلى ذلك فإن بناء السد سيكون فوق فالق زلزالي ناشط مما يشكل خطرًا اكبر.
وبدل أن تعمد الدولة على حماية هذه البقعة من الأرض، قامت باستدانة 600 مليون دولار من البنك الدولي مع فوائد سيتكبدها المواطن اللبناني.
اذ ان هذا المشروع لا يخالف القوانين اللبنانية فحسب، بل يخرق واحد من أهداف البنك الدولي الذي يتمثل بمحاربة الفقر والتخفيف من التغير المناخي اذ ان من الأسباب الموجبة للتراجع عن بناء هذا السد أهمها: يقضي على التنوع البيولوجي، ويساهم في تغير المناخ من خلال قطع آلاف الأشجار، اضافة إلى ارتفاع نسبة الرطوبة، كما يهدد المواقع الأثرية التي تعود لفترات تاريخية أهمها المعبد الروماني المدفون تحت الأرض بالإضافة إلى دير القديسة صوفيا وكنيسة مار موسى الحبشي، وقد أظهرت العديد من الجمعيات والمنظمات التي تُعنى بالبيئة مدى الخطر الذي يشكله اقامة او تنفيذ مشروع سد بسري. أضف الى ما سبق من مخالفات يخرقها بناء هذا السد، من مخالفات للقرارات والقوانين والإتفاقيات الدولية حيث المادة رقم 444 من قانون حماية البيئة واتفاقية باريس بشأن التغير المناخي وأهداف التنمية المستدامة 2030 .
وقد أظهر التقرير الذي أعده احد المهندسين والمتابعين لملف مشروع بسري “بأن قضية سد بسري لا تقف داخل لبنان فقط، بل تناولها نواب ألمان يطالبون بالحفاظ على مرج بسري، اذ طالبت رئيسة الكتلة البرلمانية لتحالف “حزب الخضر وحركة
الصحوة الديمقراطية “كاثرين جورنبخ ايكاردت” وعضو ” بوندستاغ” عن حزب الخضر “اوي كيكرتز” بوقف الأعمال بسد بسري، فالحكومة الألمانية من أهم الممولين في البنك الدولي، ممول المشروع. وتساءل النائبان الألمانيان عن مصير الضرائب التي يدفعها الشعب اللبناني، فالمشروع يشمل أرضاً خصبة للفساد في ظل أشغال باهظة الكلفة من دون جدوى فعلية.
أخيرا ما هو مصير هذا السد الذي يثير جدلاً واسعاً بين العامة وذوي الاختصاص؟
الجواب متوقف على دور القوى المدنية الناشطة التي تعارض بشدة تنفيذ هذا المشروع، وبالمقابل هنالك قوى سياسية اقتصادية مستفيدة منه.
لمن ستكون الغلبة عند إعادة طرحه من قِبل النشطاء بعد الخروج من أزمة كورونا؟ وهل ستستمر الدولة في غض النظر عن الخطر الذي يهدد الأهالي والقرى المجاورة لمنطقة بسري في حال تم تنفيذه ؟
ماذا بشأن ما أنفق على السد وما هي الحاجة لإتمامه وكيف سيتم توفير الأموال في حال متابعة تنفيذه؟
علينا أن ننتظر لنرى ما يخبئه المستقبل.
محاسن نجم